اسم الكتاب / خذ الحكمة من سيدوري قراءات في "خذ الحكمة من سيدوري " بأقلام : د.عبدالعزيز المقالح د.حاتم الصكر د.عبدالرضا علي د.وجدان الصائغ شاكر مجيد سيفو عبدالرزاق الربيعي يكتب قصيدة اللحظة العراقية المخضبة بالدم د.عبدالعزيز المقالح - 1 – عن المركز الثقافي العربي السويسري (زيوريخ – بغداد) صدر ديوان جديد للشاعر عبدالرزاق الربيعي أحد الشعراء البارزين في العراق، وأحد الذين عملوا على إثراء المكتبة الأدبية العربية بأكثر من عشرين عملاً إبداعياً تتوزع بين دواوين شعرية ومسرحيات تجمع بين الشعر والنثر. عنوان الديوان الجديد هو «خذ الحكمة من سيدروي». وسيدروي كما يشير الشاعر في تقديمه لقصيدة في الديوان تحمل العنوان نفسه هي «صاحبة ألحانه في ملحمة جلجامش والتي مر بها في طريقه بعد أن سرقت الأفعى منه عشبة الخلود» والقصيدة تأملات جريحة وتعبير حزين عن خيبة الأمل: «أيه جلجامش/ كما ترى بعينيك اللتين/ سيستقر ضوؤهما/ في معدة الدود/ انقشع الضباب/ واتضحت الفاجعة/ تبددت أوهام العاطفة/ والجاه/ والأمجاد/ والخلود». (ص 23). وبكل شفافية وإخلاص استطاع عبدالرزاق، القبض على نار اللحظة العراقية الحزينة المغمسة بالدم والدموع وصراخ الأرامل والأطفال الذين زاد عددهم في هذه الأيام الى درجة لا يتسع لها حصر ولا يحيط بها الاحصاء. وهو كغيره من شعراء المنفى يستعيض عن معايشته لأحداث الداخل بالاحتراق شعرياً. وكنت زاملت عبدالرزاق طوال سنوات إقامته في صنعاء مدرساً، وفي الوقت ذاته كنت أقرأ كل يوم ما على وجهه من أحزان وما يحمل جسده النحيل من هموم ثقال. وتابعت ما كان يكتبه – حينذاك – من قصائد وهي ساخنة اللوعة حارة الشجن. إذ كانت لنا جلساتنا اليومية والأسبوعية التي يقرأ فيها الشعراء والقاصون الشبان الواعدون نتاجاتهم الإبداعية في جو من الألفة ينسى معها الحزين حزنه والغريب غربته. وكان لعبدالرزاق حضور يتنامى في قلوب أصدقائه الى درجة ظننا معه أنه صار جزءاً منا ومن المدينة وإنه لن يغادرنا أبداً، وفجأة حمل عبدالرزاق قصيدته ورحل الى «عُمان» ليواصل مهمة التدريس والكتابة والحنين الى وطنه الذي كلما كبرت مأساته كبرت فجوة المسافة مع إمكان العودة اليه. وكان لنا في مجالسنا اليومية والأسبوعية صديق فنان شاعر وقاص ومخرج مسرحي هو كريم جثير صاحب مشروع المقيل الصنعاني والذي غادر صنعاء قبل عبدالرزاق الى «كندا» وبعد احتلال العراق بفترة قصيرة عاد الى بغداد على أمل أن يضيء شمعة وسط الظلام الجديد المحمول بالدبابات وصواريخ كروز لكنه لقي حتفه فأبكانا مصيره الفاجع كثيراً وجعلنا نشفق على كل مبدع عراقي أياً كان مكان إقامته من العـــودة الى ساحة تتقاتل فيها قبائل الديموقراطية والتحديث الأميركي على فُتات سلطة يبصقها الاحتلال من فمه ويدوس عليها بقدميه. وما من ريب في أن ما يحدث في الساحة العراقية اليوم ليس سوى مسرحية دامية تم تأليفها وإخراجها بعبثية تراجيدية تنتفي معها حدود المنطق الإنساني وحتى الحيواني، إذ كيف يقتل الأخ أخاه بدم بارد وشعور مطمئن وهو ما يجعل الكلمات تخجل من المواجهة والتعبير بوضوح، والاكتفاء باستحضار الدلالات الموجعة كما فعل عبدالرزاق في ديوانه الجديد: «في بلاد نسج الخوف/ على الأعين/ ظل العنكبوت/ لم نعد نبكي على/ من مات/ بل/ من سيموت». (ص 7). - 2 – في العراق، يتم تصنيف الشاعر عبدالرزاق الربيعي ضمن شعراء قصيــــدة النثر، وهــــو كذلك من كتاب هذه القصيدة ومن دعاتها أيضاً، وممن يبشرون بقصيدة أكثر حداثــــة، لكنه مع ذلك ليس متعصبــاً لهذا الشكل من الشعر أو ذاك ولا تدفعه حاجة الى تجاهل الأشكال الأخرى، لذلك فهو يعود بين حين وآخر ليكتب قصيدة التفعيلة بفرادة، وقد يحافظ على القافية كما رأينا في النص القصير الذي أوردناه في نهاية الجزء السابق من هذه القراءة، أو يلغيها معتمداً على مهارة الشاعر في بناء قصيدته وتطويعها التلقائي للإيقاع المناسب أو التخلي النهائي عنه الى حين أو الى الأبد. لا سلطان على الشاعر من خارجه. هو سلطان نفسه. وهو من يختار الشكل أو اللاشكل الذي يرغب في الكتابة له ومن خلاله، وهكذا هو عبدالرزاق يكتب القصيدة كما تأتي اليه بشفافية واختزال: «يا للأسى/ الذي ينتظرني/ بعد أن أستيقظ!/ من يعيد إلي/ الوردة/ التي أشمها/ في منامي؟». (ص 18) العبــــارة هنا مكثفة وخالية تماماً من الإيقاع الخارجي، ومفتوحة على تفسيرات وإحالات لا يسهل على متلقي الشعر العادي الإلمام بها وبدلالاتها وانزياحاتها، على رغم أنها تغوص في باطن المشهد الواقعي بمأسويته الخانقة. إلا ان ما بين الشعر الحقيقي والتواصل المباشر مسافة على المتلقي الجيد أن يجتازها ليكتشف معها ليس سر معنــــى الوردة في هذا السياق وحســــب وإنما سر منامات المنفيين الذين لا يرون أوطانهم ولا يصافحون حدائقه إلا في المنام: «عندما تعود الى الوطن/ لا توجه وجهك/ صوب البيوت/ والمدن والحدائق/ أعط وجهك المقبرة/ هنـــاك/ هناك/ ستجد الكثيرين/ ممن تـــود أن ترى/ ويودون أن يروك/ ولو مــن تحت/ تراب الذكريات». (ص 46) داكن بل قاتم هو الواقع، وداكن وقاتم هو الشعر الذي يصدر عنه، ولو لم يكن الشعر كذلك لكان كاذباً بامتياز ولما وجد من يقرأه ويملأ الفراغات التي تتخلله. وللذين يرفضون القول إن النص هو الوجود نفسه نقول لهم بتعبير مخفف انه مثل الوجود النفسي أو كأنه يشبهه مهما حاول أن يظهر في نسيج خاص به أو ينغلق بعض الشيء على متلقيه. ونص عبدالرزاق في ديوانه الجديد ينفتح على وجودين أولهما اللغة/ الشعر، والآخر الواقع/ المثير. ووفق القوانين الثابتة والمتغيرة لهذين الوجودين تنطلق قصائد الديوان بوجودها اللغوي والواقعي وبأبنيتها التي تختلف من قصيدة الى أخرى، ومن موقف الى آخر: «إنه يهطل/ قالت لي/ والشوارع تفتح سماءها/ لظلين يدبان/ تحت مظلة الغيم/ لكن الهواء/ كان مرّاً/ قلت لها/ لذا/ ابتعدت السماء عنا/ والآن.../ أيها المطر الحلو/ عد للشوارع/ أيتها الوردة/ كرري على النداء/ إنه يهطل». (ص 67) هكذا هو عبدالرزاق الربيعي يقف على بعد مسافة بين المجاز والواقع تطول أو تقصر وفق الحالـــة الشعرية الخاصة والخبرات الجمالية العالية التي اكتسبها عبر رحلته الممتدة على مدى ربع قــــرن وما تخللها من بؤس المناخ وحساسية الترحال. جريدة الحياة - 08/01/07 سيدوري تبعث حكمتها للشعراء د. حاتم الصكَر كما في العمل العراقي الخالد ملحمة (هو الذي رأى) التي عرفت لاحقا بملحمة جلجامش ، نجد سيدوري –صاحبة الحانة التي نصحت جلجامش بأن يدع سؤال الخلود والفناء ويستريح لينعم باللذائذ مادام يمتلك حياته ، تعتلي ديوانا حديثا لشاعر عراقي ثمانيني لتعود إلى النصح وتثبت الوقائع أنها على حق. لكن ديوان عبدالرزاق الربيعي: خذ الحكمة من سيدوري- منشورات بابل2006- لا يتحدث كسلفه العراقي عن أفعى تأكل عشبة الخلود، بل عن خيبات أكلت حياة العراقيين في الزمن القائم وخذلت انتظارهم وأحلامهم. لقد ضاع كل شيء ولن يجد جلجامش في أوروك حتى قبر خله وشبيهه أنكيدو فربما أزالته دبابة أو قنبلة ، فقد كثر الموت وقلت الحياة حتى صار البكاء- كما يقول الربيعي في قصيدة قصيرة-على من سيموت لا على الموتى الذين ماتوا فاستراحوا. تلك هي الثيمة التي انشغل بها الربيعي المسكون بما يهز وجدانه من أحداث وطنه فينفعل بها ويتفاعل معها .. وهو الذي كان يرصدها مبكرا حيث كان ديوانه: ( غداً تخرج الحرب للنزهة) الذي شهدتُ ولادته وقدمته ( منشورات اتحاد الأدباء اليمنيين عام 2003) ، من أوائل الأعمال الشعرية التي تنبهت إلى ما عصف بالوطن الجريح واستبقت ما يدور على أرضه الآن من كوارث. أذكر أن عبدالرزاق أصّر على تسمية الديوان : على ظهر أسد بابل ، مستوحياً ذلك من صورة تلفزيونة لأحد جنود المارينز يعتلي ظهر أسد بابل التاريخي االرابض في رمال بابل التاريخية ، ثم اقتنع بأن العنوان المقترح(غداً تخرج الحرب للنزهة )أكثر رهافة وشاعرية وتأثيرا لقيامه على المفارقة الحادة: الحرب /النزهة. هكذا اتسمت أشعار الربيعي الأخيرة بالألم والحزن ، فلا غرابة أن يجد في التراث العراقي القديم ما ينجده في بكائياته الحادة. لقد منح النثر قصائد الربيعي فرصة الإفادة من السرد ومظاهره الممكنة في الشعر ، فالقصيدة الرئيسية التي أخذ الديوان عنوانها تعتمد على المخاطبة المباشرة بحوار طويل مع جلجامش . وفي قصيدة ( أسنان) يترجم الشاعر حلماً للأخ القتيل الذي يعاد قتله في الحلم أيضا بشظية تتطاير من عبوة ناسفة . وهكذا تتخذ القصائد هيئاتها من مناسبة سردية تتخفف عادة من آليات السرد وعناصره المنتظمة بكيفيات أخرى في القص معتمدة حيوات البشر المنسحقة بلا رحمة في جحيم اللعنة القدرية التي يعاني منها الوطن ، فلا يظل لجماله معنى لأن كل شيء فيه مرتبط بالفقد وبالخسارات المريرة التي دفع أبناء جيل عبدالرزاق بالذات قسطاً كبيرا من حياتهم وسنوات حلمهم وشبابهم في غبار معاركها . هنا يصبح الصراخ مبرَّراً لأنه احتجاج على ما يحصل من كوارث ، وما يجري دون منطق ، هذا الصراخ الذي ترك تراجعات عديدة في الملفوظ الشعري لأصوات كثبرة من أجيال مختلفة في العراق ، نابت عن حداثاتها هيجانات لغوية وصورية ودلالات مباشرة وإيقاعات ضاجة صاخبة وأكثر ما ينقذ أشعار الربيعي من ذلك المحذور هو اعتماده الانزياحات الحادة والمفارقات الأسلوبية الواضحة في التراكيب والصور أكثر من سواها ، وهي وسيلة ارتاح لها الربيعي وتميز بها – ويمكن ملاحظتها في بناء قصائده كقصيدة (حب) التي يتخيل فيها سقوط حرف الراء من كلم(حرب) وقد أعاد لذاكرتي مقطعا عنوانه ( ر) من قصيدة (أبجدية عراقية ) للشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس ترجمتها أمل الجبوري التي يقترح فيها أن نأخذ الراء من : ((حرب)) لنتلمس مفردة: ((حب)) وما سيترتب على هذا المقترح من تغير في الحياة التي سيسودها الحب المنبثق من ولادة خطية في حضن الأبجدية التي بحذفنا للراء من كلمة : حرب نكون قد نقلنا حياتها وحياة البشر الناطقين بها إلى مناخ مختلف تماماً.. مناخ يكون الحب هو الهواء الذي يتسيد فضاءه حيث لا مكان للقتل والعسف والاحتلال . و حتى في عناوين دواوين الربيعي نجد هذه الأسلوبية المتكررة ( جنائز معلقة، موجز الأخطاء…) وفي خلاصات القصائد أو حكمتها وصورها: اصطحبنا الحقائب وصاحبنا الجوازات وشرطة الحدود وقلنا : نسافر ولم نعرف إننا تزوجنا الغيوم المسافرة لننجب مسافات قاحلة فقط في تلك القصائد الوزنية الصارخة ينسحب السرد وتتلاشى الصور القائمة على المفارقات، ليعلو الندب والصراخ ، ومنها قصائد : يا عراق ، وبرق: يا عرا ق يا عراق يا عراق أيها الجرح السماوي المراق أيها المزروع في خاصرة الريح على ظهر البراق لكنه في غالب قصائد ديوانه يستمد صوره ولغته وإيقاعاته من تلك الإنزياحات الصورية واللغوية التي عُرف بها وميزت قصائده منذ سنين: هنا نلتقي بلحيةٍٍ مفخّخة .. ، وأم تبحث عن فلذة ..حلمها بعد الانفجار، أما المكان الذي شهد الواقعة المتكررة يومياً في نهارات بغداد وصباحاتها فقد أصبحت ساحة القلب ثم ارتفعت مع تلك الأجزاء والأشلاء المتطايرة بعد انفجار الخميس المفخخ. من الواقعة اليومية ينتزع الشاعر وقائعه الشعرية فيعيد بناءها داخل النص ليوجهها حيث اعتقاده بلا جدوى الموت الذي صار العراق علامة عليه أو دلالة تشتغل تحت اسمه المضيء الذي منح البشرية المحبة والشعر والسلام زمنا طويلا فبدل أن نفرح لأننا على قيد الحياة ، يقترح الشاعر أن نظل : على قيد العراق . في بحث جلجامش عن الخلود وما يعيد الشيخ صبيا والميت حيا ،و ثم عودته الخائبة دون حل أو دواء أو أمل وجد عبد الرزاق رمزه الشخصي وأسطورة بلده المكتنز بالأساطير والعجائب حتى في مصائره الفريدة، وبدل أن تنطوي سيدوري في حانتها تغري المسافرين المغامرين بالبقاء في عذوبة ملذاتها وشرابها ، ها هي ذي تبعث الحكمة للشعراء ليكفوا ويكتفوا لأن لا شيء في الأفق يلوح خلاصاً أو نجاة ً أو أملاً. وهذا ما تؤكده القصائد المعبرة عن ثيمة اللاوصول دوما، فهناك ما يقطع الرحلة أو يوقفها ، فكأن النصوص إعادة صياغة لأمثولة جلجامش المتجددة كما في قصائد مثل: (مستنقعات، بما ذا يعود الغريب، عندما تعود إلى الوطن ، وغيرها)…. الربيعي شاهد شعري على ما حدث ويحدث ، بل هو أحياناً يشم الآتي ويستبق ما يجري وذلك ما أكدته معالجاته الشعرية السابقة المنهمكة بوطنه الذي يلملم شظاياه ويتتبع انكساراته. ومما يزيد ألمه أن الانكسارات تتعمق والوطن يبتعد حتى ليقترح علينا في إحدى القصائد أن نسأل عمن ظن ظل حيا لا عمن مات ، فالموت هو القاعدة في عراق الدم والخسارات ، والحياة هي الاستثناء . ولا يملك - في زمن الرصاص المجاني الأعمى وانهيار الأحلام – إلا قصيدته ملوّحاً بها في وجه الشر المحدق بوطنه وأهله وذكرياته ووجوده. ذبك لا يعني أن عبدالرزاق لا يخلو لنفسه أو يظل مرهونا منغمسا في الضمير الجمعي، فها هو يصور وحدته الآهلة فيقول: شيئا فسيئا أقلل من الآخرين لأمتليء بالوحدة وعندما أجلس وحدي يكثرون لذلك ترونني وحيدا مليئا بالآخرين هكذا يحضر الآخرون حتى في وحدة الشاعر ، فهم صليبه بل هم الصخرة كما خيبة جلجامش في ( خذ الحكمة من سيدوري ) أ د. عبد الرضا علي إذا كان الإحباط تثبيطاً يعوق الفرد ويحول دون إرضاء دوافع العضويّة، أو حوافزها كما يقرر علم النفس⁽¹⁾، فإنَّ الخيبة حين تُصبح هاجساً شعريّاً تقترب من الإحباط وتلامسه في التشاؤم إلى حدِّ اليأس من حصول التغيير الذي تطمح الأعماق إلى تحقيقه . ولعلّ مجموعة عبد الرزاق الربيعي الشعريّة الموسومة بـ " خذ الحكمة من سيدوري " قد أدارت فلسفات نصوصها،أو مضامينها على خيبات أبطالها في معظم ما طرحته من رؤى عبر سنوات الاغتراب الطويلة،مشكّلةً محنة الذات الشاعرة في وعيها ولا وعيها وهي تحاول فكّ مغاليق الشعر في عالمها المتصارع الذي تبرّمت منه،ورفضته. ومع أنّ معظم قصائد هذه المجموعة تنضوي تحت أسلوب قصيدة النثر (التي نميل إلى تسميتها بالنصوص المفتوحة ) فإنّ فيها عدداً من قصائد التفعيلة على إيقاعي الرمل والمتقارب سيجيء الحديث عنها إن كان في هذه القراءة متّسعٌ من الوقت. عمد الربيعي عبد الرزاق عن وعي شعري عامد إلى تقنيات فنيّة عديدة في أسلوبيه: النثري والتفعيلي،ستحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على بعضها تبييناً لتأصيل القول النقدي في المنطلق والتطبيق،ومن هذه التقنيات: •1- القناع : القناع تقنية فنيّة كادت أن تُصبح ظاهرة لدى شعرائنا المعاصرين لفرط ما حملتْ من همومهم وأزماتهم؛ وفيها يلجأ الشاعر إلى التخفّي وراء قناع يتمّ اختياره بدقّة من رمز ملحميّ،أو أسطوريّ،أو تاريخيّ،أو دينيّ،أو غير ذلك،فيحمّله آراءه،ومواقفه من الوجود،ويمنحه إجازة البوح عن كشف رؤيته لقضيّة الصراع في عالم اليوم؛ فيكون الصوت للشاعر،والصورة للقناع،وبعبارة أدق،يكون المضمون المصرّح به للشاعر المتخفّي،ويكون الشكل للقناع/الرمز،وبهذا يُقوّلُ المبدع قناعَه ما لم يقله واقعاً،ويجعله إمّعة ً يردّدُ كالببغاء ما يؤمر به من قول وفكر،وحجاج. وقد لجأ الشعراء إلى هذه التقنية هرباً من الأنظمة الديكتاتوريّة ، لإيهامها أنّ البوح للرمز وليس للشاعر إذا ما أرادت تلك الأنظمة ملا حقتهم،أو محاسبتهم على ما يطرحون،وهذا البوح في الغالب يزعزع ثوابت الأنظمة،ويدعو للانقلاب عليها. وقصائد الأقنعة في هذه المجموعة هي: (خذ الحكمة من سيدوري) و (عباءة الغزالي ) و (نقشٌ أحمر ليزيد الحميري )،وواضحٌ أنّ قناع الأولى لرمز ملحمي،وقناع الثانية لرمز إسلامي،وقناع الثالثة لرمز عربي،وسنقف على الأولى تحديداً. في (خذ الحكمة من سيدوري) مناجاة نفسيّة،أو ما اصطلح عليه بـ"المونولوج الدرامي " إذ يكلّمُ البطل نفسه عن رحلة المنافي التي لم تحقّق لذاته شيئاً غير الخيبة ووهن الجسد وانطفاء الأمل المرتجى،فكيف يعودُ إلى الوطن خالي الوفاض من أيّ مغنم ٍ ،وإن كان وهما ً من أوهام العاطفة: إيه كلكامش كما ترى بعينيك اللتينِ سيستقرّ ُ ضوؤهما في معدة الدود انقشع الضباب واتّضحت الفاجعة تماماً تبدّدتْ أوهامُ العاطفة والجاه والأمجاد والخلود لم تحقّق لنفسك َمغنماً يا جلجامش لقد حقّقتَ المغنم للرياح التي خسفت بك والعقارب الناعمة لم تحقّق لنفسك َمغنماً يا كلكامش فلا تعد لأوروك بجسدٍ كهل وشعر ٍ أبيض وكفين مليئتين بالخيبة لا تعد لأوروك يا كلكامش ها هو الضوء يجفّ ُ في عروقِك وها هو السعال يعصر صدر حروفك وها هو الهواء يمحو أثرك ها هو قبر (أنكيدو) لم يعد بانتظارك لم يعد... فلا تعد. فالمتحدّث هنا ليس جلجامش،إنّما الذات الشاعرة،لكنّها استعانت بما كان في ملحمة جلجامش من صور الرحلة المتعبة الطويلة التي انتهت باستحالة تحقيق هدف جلجامش في الحصول على الخلود. فإذا كان جلجامش قد عاد إلى أوروك مقتنعاً بخيبته،فإنّ الذات الشاعرة لم تعد تحتمل العودة إلى أوروك (كناية عن العراق) ظنّاً منها أنّ أثرها قد ضاع في الوطن بعد أن استقرّت الخيبة في أعماقها إلى الحد الذي جعلها محبطة. لكنّ المفارقة تكمن في عنوان القصيدة (خذ الحكمة من سيدوري)،لأنّ المتلقي سيظنّ ُ أنّ الشاعر قد وظّف ما قرّرته صاحبة الحانة(سيدوري) من أنَّ نصيب البشر من الحياة مقرون بسنوات معيّنة،ينطفي بعدها بالموت كبقيّة الخلق،لهذا عليه ألّا يفكّر بمغنم الخلود،وهذا نصّ ما جاء في الملحمة: " فأجابت صاحبة الحانة جلجامش قائلة ًله: إلى أين تسعى يا جلجامش إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد إذ لمّا خلقت الآلهة البشر قدّرت الموت َ على البشريّة واستأثرت هي بالحياة أما أنتَ يا جلجامش فاجعل كرشكَ مملوءاً وكن فرحاً مستبشراً ليلَ نهار وأقم الأفراحَ في كلِّ يوم ٍ من أيامك وارقص والعب ليلَ نهار واجعل ثيابَكَ نظيفة ً زاهية واغسل رأسَكَ واستحم في الماء ودلل الطفلَ الذي يمسكُ بيدِك وأفرِح الزوجة َ التي بين أحضانك وهذا هو نصيبُ البشر "⁽²⁾ في حين أنّ الشاعر الربيعي لم يعتمد على توظيف حكمة صاحبة الحانة في القصيدة،وإن حمّلها الأمر في العنوان،إنّما وظّف ما جاء على لسان جلجامش في الملحمة وهو يخاطب الملاح (أور- شنابي) ،لكنّه قلب المعادلة بذكاء،فجعل الملاحَ(أور- شنابي) المُخاطبَ هو المتكلّمُ،وجعل المتكلّم َ جلجامشَ هو المُخاطب ُ،من أجل أن يحقّق التغيير في النسج،ويجعل البطل شاعراً بالصدمة،ويترك للقارئ أن يختار بين أن يكون النص مناجاة الذات الشاعرة مع نفسها،أو أن يكون حواراً خارجيّاً للوصول إلى خلاصات تفتح باب الأسئلة الملحّة لمعاناة رحلة المنافي المستمرّة. ولكي يقف القارئ الكريم على عمليّة قلب المحاورة نورد بعض ما جاء في الملحمة على لسان جلجامش وهو يخاطبُ الملاحَ (أور - شنابي) ليوازن بين الخطابين : من أجل من يا " أور- شنابي " كلّت يداي؟ ومن أجل من استنزفتُ دمَ قلبي؟ لم أحقّق لنفسي مغنماً أجل! لقد حقّقتُ المغنم إلى " أسد التراب "⁽³⁾ 2 - الانزياح : شغف بعض السبعينيين والثمانيين من الشعراء بـ(الانزياح المعنوي الدلالي) ،وأكّدوه في صورهم الشعريّة،وبعض عنوانات دواوينهم،أو مجموعاتهم الشعريّة،ومن أبرزهم: جواد الحطّاب،وعليّ الشلاه،ومنذر عبد الحر، وعدنان الصائغ،وغيرهم،ولعلّ عبد الرزّاق الربيعي كان أقدمهم شغفاً بانزياح العنوانات،كما في مجموعته الأولى " إلحاقاً بالموت السابق " التي صدرت العام 1986م،فضلاً عن مجموعته الموسومة بـ" جنائز معلّقة " التي صدرت العام 2000م. لكنّ الربيعي لم يكتف بانزياح العنوانات حسب،إنّما نقل بعض انزياحاته إلى جمله الشعريّة في العديد من قصائده،ولمّا كنّا بصدد الحديث عن(خذ الحكمة من سيدوري) فحريّ بنا أن نشير إلى بعضها، كما في قوله: مادمنا على قيد العراق.....ص21. و تمام الخميس.....ص24. و ارتفعت أمّ تبحث عن فلذة حلمها.....24. و إغرورقت عيناه بالفجيعة.....26. و غربة لمدة شارع .....29. و آيلة للغناء.....42. و سقطت (عين) الاسم بمنتصف الحب.....43. و ابتعد عن رأسكَ بمسافة 100 تجربة مرة.....57. و على قميصي بقعة بحر.....59. و طابعان إلى منظّمة الصليب الأسود.....65. و مطّ لسان التزوير.....68. و غيرها. وتوضيحاً للمصطلح فإنّنا نكرّر هنا ما قررناه من أنّ " الانزياح تغييرٌ في نسق التعبير المتوقّع المعتاد إلى نسق آخر يؤدّي دلالة مخالفة،فهو خرقٌ للثبات،وعدول عنه إلى قصدٍ توليديّ يخالف مقتضى الظاهر السائد،ويخرجُ عنه "⁽⁴⁾. فقوله:(مادمنا على قيد العراق)،انزياح أو عدول عن(ما دمنا على قيد الحياة). وقوله:(تمام الخميس) معدول عن (تمام الساعة كذا ). وقوله:( أمّ تبحث عن فلذة حلمها) معدول عن (أمّ تبحث عن فلذة كبدها) وهكذا في بقيّة الانزياحات،وهي تقنيةٌ لا تخلو من ذكاء في النسق الشعري. 3 - المحاورة: تعدّ ُ المحاورة منجزاً فنيّاً إذا أحكمت أداءً. ومع أنّ الشعر العربيّ القديم قد قدّم ألواناً رائعة ً منها،إلا أنّ الروّاد (السياب ونازك والبياتي وبلند...وغيرهم) قد نبّهوا إلى منجزها الجمالي دراميّاً في حركة التحديث،لاسيّما حين أشركوا فيها أكثر من صوت وداخلوا بين المحاورة (الديالوج) والمناجاة النفسيّة (المونولوج الدرامي)، ولعلّ قصائد السياب : ( المومس العمياء) و(قالوا لأيوب) و(منزل الأقنان) خير ما يمثل تلك المرحلة. لكنّ محاورات الربيعي ارتبطت بخيبات أبطالها أيضاً،ففي (ليلة صغيرة) يستثمر المتحاوران جملة (ارجع إليّ....) على نحو حزين: ( ارجع إليَّ....) قالت لي في تلك الليلة الصغيرة التي تأبّطت عند سواحلها خد الذكرى ــ ( فما حياتي أنا... إن لم تكن....) ولكنّي لم أرجع إليها بل رجعتُ إلى المطر الذي بلل الموسيقى قلتُ له مغاضباً: ارجع إلينا فلقد أدمى خطانا الجفاف شقّق قلبينا التصحّر وأغنية لنجاتنا من جنوناتنا الصغيرة فالقصيدة تتحدّث عن تجربة حبّ أخفقت،وتباعد الحبيبان مرغمينِ،لكنّهما يكتشفان بعد فوات الأوان أنّ انفصامهما لم يجفّفْ ما كان بينهما من ندى. فتحاول بطلة القصيدة أن تكون الأجرأ،وتطالبُ بعودة الندى ثانيةً من خلل استغلال أغنية (ارجع إليّ)،لكنّ مكاشفتها تبوء ثانية بالخيبة،لأنّ البطل كان عاجزاً عن إعادة المطر لموسيقى الروح،ولعلّه كان مؤمناً بالحكمة المفلسفة(إنّك لا تنزل النهر مرتين)،ويبدو أنّه قد استسلم للخيبة،ورآها: أغنية (من جنوناتنا الصغيرة)،جاعلاً لفظة(لنجاتنا) تعطي معنيين:الأول الخلاص مما كان فيهما من جنون،والثاني،جعل ذلك الجنون مرتبطاً بـصوت(نجاة الصغيرة) التي كانت مفتتحاً للبوح. لكنّ في المحاورة مسكوتاً عنه لم تبح به البطلة تجلّى في قولها: ــ (فما حياتي أنا... إن لم تكن....) وهذا المسكوتُ عنه يستطيع المتلقي أن يكتشفه بكلّ بساطة،كما يكتشف ما كان منه في نصّه الآخر (وردة وظل ومطر) الذي بني أيضاً على المحاورة المتشحة بالخيبة . ولمّا كنّا بصدد الخيبة،فلابدّ من الإشارة إلى أنّ نصوصاً عديدة في هذه المجموعة قد أعلنت عنها،وأشارت إلى تجارب صادمة في حياة أبطالها،لاسيّما في: (رمال خشبيّة) و(كشوفات) و(لام شمسيّة) فقد أوقفتنا على الحروف الأولى لأسماء اللواتي كنّ مشاريع لتجارب مخفقة في حياة صانع النصوص ،وذكّرتنا بجرأة السيّاب في قصيدته المشهورة (أحبّيني) التي فاتح فيها (لوك نوران) بما كان في قلبه من جوى وشدة وجد ، بعد أن أخفق في جميع تجاربه السبع،بما فيها تجربته مع زوجته التي ختم بها قصيدته قائلاً.: " وآخرهنَّ آه ...زوجتي قدري أكانَ الداء ليقعدني كأنّي ميّتٌ سكرانُ لولاها؟ " أما الربيعي فقد قال في قصيدته الأولى: أنتِ بسرير وأنا بسرير أنتِ بغرفة وأنا بمدينة أنتٍ ببلد وأنا ببلد أنتِ هناك جداً وأنا هنا تماماً ولكنّكِ معي في القلب نفسه. وقال في الثانية: (هاء) الأوهى من موجة عندما أهدت القبيلة رأسَ قلبي على طبق انحناءةٍ كاملة في الطريق إلى مقبرةٍ ما حيث دفنّا آخر حلم كان يمكن له أن يقوّضَ سماء الموت التاسعة أضف إلى ذلك: (نون) الأكثر حكمة من (سقراط) عندما تجرّعت سمّ أعشاش الغياب الذهبيّة و(نون) الأخرى المشرّدة في شوارع الرمال عندما قالت مشيرةً إلى الوهم: ها هو... (دال) الطفولة الأكثر من شاعرة،والأقل من طفلة والأبعد من قارة أما (الميم) فقد جرفتها سحائب أخرى كما جرفت أخريات قلنَ فيَّ الكثير... لكنَّ الذي بقي في كشوفات الملائكة الخضر ما قلتُه فيهنَّ من أمطار دائمة الخضرة. وقال في الثالثة: بلا(دال) ولا (هاء) بل ولا حتّى الهمزة التي كانت تغرق بالحلاوة وإذا بك تقطع الطريق المعاكس للوصول ولن تصل. وهي اعترافات جريئة على شاكلة اعتراف السيّاب الجريء،وكشوفات شجاعة للخيبات العديدة المتلاحقة دون أن تشعر الذات الشاعرة بما قد يسبب لها ذلك من إحراج على صعيد البوح في ما يجب إخفاؤه عن الآخرين. ***** إيقاعات المجموعة ضمت (خذ الحكمة من سيدوري) تسعة ً وثلاثين نصّاً،بما فيها (توقيعات على هامش غيمة) التي تألّفت من إحدى عشرة توقيعة،فإذا عددناها نصوصاً قائمة بذاتها،(وهي كذلك فعلاً) فتكون المجموعة قد ضمّت تسعة ً وأربعين نصّاً كانت الغلبة فيها للنصوص المفتوحة بما يوفي على الثلاثة والأربعين،في حين كانت قصائد التفعيلة لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة تعاقباً ومراوحةً بين إيقاعي: الرمل والمتقارب. فعلى إيقاع الرمل كانت:( ظلّ العنكبوت) و (يا عراق) و (برق)،وأمثلتها التطبيقيّة كالآتي: قال في(ظل العنكبوت): في بلادٍ نسجَ الخوف على الأعينِ ظلَّ العنكبوتْ فاعلاتن فعِلاتن فعِلاتن فعِلاتن فاعلان لم نعد نبكي على من ماتَ بل من سيموتْ فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فعِلان وقال في (ياعراق) وهي مدوّرة : ياعراق كلّما نهربُ من أوجاعِكَ الخضرِ نرى ريح المنى تجري بنا صوبَ العراقْ فاعلان فاعلاتن فعِلاتن فاعلاتن فعِلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلان وقال في(برق): قالَ للوقتِ عبير الصمتِ غيم الأمسِ فاتْ فاعلاتن فعِلاتن فاعلاتن فاعلان وأتى الحلم فتيّاً فعِلاتن فعِلاتن كي يضيء الحدقات فاعلاتن فعِلان وعلى إيقاع المتقارب كانت:( عباءة الغزالي) و (لا بدَّ منك...)،وأمثلتها التطبيقيّة كالآتي: قال في (عباءة الغزالي) وهي مدوّرة : وحينَ رأيتُ العثورَ عليكَ يقيناً فعولُ فعولن فعولُ فعولُ فعولن تخليتُ عن نهرِ بغدادَ سبورة الدرسِ والعقلِ والوردة الباسمة فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعولن فعو وقال في ( لابدَّ منكِ...) وهي مدوّرة أيضاً: لـ(صنعا) يحجّ ُ دمي الأبيضُ المتوثبُ فرطَ الشجن ْ فعولن فعولُ فعولن فعولُ فعولُ فعولن فعو يؤدي مناسكَ فرض اليمن ْ فعولن فعولُ فعولن فعو أعودُ إليكِ فعولُ فعولُ كما عادَ لي وطني المبتلى بالمحن ْ فعولن فعولُ فعولن فعولن فعو وواضحٌ أنَّ قصائد الربيعي التي نظمت على إيقاعي الرمل والمتقارب كانت أكثر تأثيراً في المتلقي من نصوصه المفتوحة، فقد التحم النسيجُ بسحر الإيقاع على نحو ٍمن الإثارة التي أسهمت في فتح العيون المغلقة،وليس هذا بقليل،فلابَّدَ من أن يضع الشاعر ذلك في اعتباره في قابل التجارب التي ستنبتُها الفطرة أو ألإلهام. الهوامش ــــــــــــــــــــــــ (1) ينظر:معجم علم النفس،فاخر عاقل،47. (2) ملحمة جلجامش،طه باقر،79. (3) نفسه،104..وأسد التراب من أوصاف الحيّة. (4) دراستنا:مخالفة السائد في شعر جواد الحطّاب(إكليل موسيقى على جثة بيانو) أنموذجا ً،6. قراءة في ( خذ الحكمة من سيدوري ) للشاعر عبدالرزاق الربيعي د. وجدان الصائغ اذا كانت الحروب الكونية قد افرزت مدارس ادبية ناكفت العقل ونددت بطروحاته الفتاكة التي قادت الذات الانسانية العزلاء قهرا الى محرقة كونية جماعية ؟؟! فرفعت لافتات تدين المنطق والمؤسسات التي وقفت عاجزة امام طوفان الحرب واطلقت شعاراتها التي تدين الراهن الملبد برائحة الدم وثقافة الموت - واقصد هنا تحديدا الدادية والسوريالية - فان طاحونة الحروب التي طحنت بشراسة المشهد الانساني العراقي على مدار مايقرب من ثلاثة عقود ولازالت ، لابد ان تترك بصماتها الراعفة على شغاف القصيدة العراقية ، فثمة مايشبه الدادية وثمة ما يقترب من السوريالية الا انها سوريالية مخضلة بدخان المفخخات وبصرخات الضحايا ، بنكهة الوجع العراقي ، بلون الدم العراقي المسفوح على وجنات الذاكرة ، بطعم المرارة والغصة ، بجحيم اللحظة الراعفة ، ، وهو مايصدق على قصائد مجموعة (خذ الحكمة من سيدوري ) للشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي -الصادرة عن منشورات بابل ، زيورخ 2006- اذ تجعلك امام مرايا صقيلة تبصر من خلالها تفاصيل الابادة الجماعية ، لتلمح انامل الانسان العراقي وهو يغمس كسرة خبزه اليومي بدلاء مترعة بالفجيعة ، وحركة عينيه وهي ترقب جمر الواقع ، تأمل مثلا قصيدته الموسومة :(ساحة النصر تمام الخميس ... ص31)ولاحظ تحديدا كيف يبدأ استهلالتها وكيف يؤرخ لايامنا المثقلة بالموت : تمام الخميس انتحرت لحية مفخخة فأضفنا (ساحة النصر ) لسجل خساراتنا وتأمل كيف ينتقل المتخيل الشعري من هذه الاستهلالة الضاجة بالمفارقة المتمترسة بالسخرية المريرة الى قلب النسق السوريالي الذي يشكل صرخة احتجاج بوجه اليومي المثخن بالفجيعة : عندما ارتفع ضجيج الموت ارتفعت الارواح ارتفع طوفان دم الخطى التائهة ارتفعت سيارات الاسعاف ارتفعت ام تبحث عن فلذة حلمها ارتفع مراسل فضائية كان يبحث عن ناج من غضب السماء ارتفعت شظايا ساحة القلب ارتفع دخان احمر حقيبة نسائية قصيدة حذاء عمود فقري لشرطي كان ينظم المرور لهجة عربية جريدة ذكرى عالقة في الذاكرة رجل عائد يبحث عن نفسه التي خسرها عندما ارتفعت ساحةالنصر ظهيرة انتحار لحية الخميس المفخخ ينجح المتن في ان يسرب لك صوت المفخخات المدوية بل وعصفها الذي يطيح بكل شيء لتلمح عبر مراياه تطاير الاجساد المحكومة بالموت وقد ضاق بها المكان الحميم ؟! بل ان تكرار (ارتفع + ارتفعت + ارتفع + ارتفعت + ارتفعت+ ارتفعت+ ارتفع + ارتفعت+ ارتفع) قد جعلك ازاء خط مشاكس رسمه عبدالرزاق معاكسا للواقع حيث سقوط (الاجساد ، الذات ، الكلمة ) وكأني به يريدها ان تبقى (جنائزمعلقة)(*) قبل ان تسقط في هاوية الفناء ، يريدها شهودا لراهن استبدل بطش الديكتاتورية بزيف التكنوقراط ليبقى منشغلا بمباهج منحتنا الموت بلحى مفخخة وتأشيرات ملونة للعدم من اللافت انك لاتجد فجوة بين ماهو كائن على الارض وسوريالية الصورة التي رسمها عبدالرزاق موظفا فيها تقنيات السردي والشعري والتشكيلي وتحديدا النحت لتكون قبالة نصب جديد لـ(ساحة النصر ) التي افرغها السياق الشعري والكارثي معا من دلالاتها الضاجة بالنشوة والعنفوان لتغدو وجها شائها من وجوه الموت . وقد يبلور عبدالرزاق الربيعي بنية تراجيكوميدية يلفح وجهك وهجها الملفع بالانين ، تأمل ماقاله مثلا في قصيدته (تحت لحية حرب الشوارع في {وادي السلام } ، ص 28) ولاحظ كيف استدرجك الى ان تستعيد مناخات عنونة مجموعته الشعرية الثانية (حدادا على ماتبقى ، بغداد 1993): اما لحومنا الطازجة فلا تخش عليها من الانفجارات ستطلع لنا لحوم اخرى ما دمنا على قيد العراق واصابع اخرى وديكتاتوريات اخرى فسيحة من اللافت ان المتن بسورياليته ينز فجيعة ولوعة مغموسة بالسخرية المريرة وكأني به يعيد مقولة ديكارت (انا افكر ، اذن انا موجود ) لتكون قبالة مقولة جديدة هي (انا عراقي ، اذن انا اتعذب ) ، هو يجعلك ازاء قدرية ملتبسة مقلقة تفقد الانسان حرية الاختيار (ما دمنا على قيد العراق ) لتوصلك الى عبثية مطلقة في زمن ملبد برائحة البارود وتغريد المفخخات وانين الطفولة . وقد يصوغ عبد الرزاق من سورياليته الشعرية فصا يضيء ثقافة المنفى التي تعصف بكل شيء ولاتبقي على أي شيء ، لاحظ مثلا قصيدة (ابلاغ عاجل ... ص57) : ايتها النفس المتوثبة ارجعي الى الفك راكضة فلدي كلمات ليست في محلها لدي نصف نهار فائض عن الجيب لدي اضطراب عاطفي وكائنة تعطيك الدقة في الموت لدي امي وتنور قلبها الحار وجنونات مقشرة لدي رغبة ماكرة لاقتلاع شجرة من شرفة الجنة لدي بالونات من الهواء الحر لها اجنحة بالاسود والابيض لدي رصاصة تنبض في قلب بارد لدي جغرافيا مدماة على جسور جريحة وبنايات عارية مدخنة لدي قبضة من الرماد ... رماد اشباح الحصى ولاحصى ودمعة على اللاشيء الذي كان كل الاشياء والاشياء التي اصبحت بلمحة الى لا......... التوقيع جلجامش ما يعكس المتن على مراياه ملامح المثقف العراقي (جلجامش ما ) الذي انهكته ثقافة الحرب والتهمت احلامه المنافي بل انك تكون ازاء اجندته الشخصية التي تقشرت عن وجوه احبته (امي وتنور قلبها الحار ) وحركتهم الحثيثة للغياب (ودمعة على اللاشيء / الذي كان كل الاشياء ) وهي اجندة يمفصلها الفضاء السوريالي (لدي رغبة ماكرة لاقتلاع شجرة / من شرفة الجنة / لدي بالونات من الهواء الحر / لها اجنحة بالاسود والابيض ) ليمنحها بنية غرائبية تعري الخطاب السياسي الذي اطاح بثمارنا الفكرية فغدت (جنونات مقشرة ) ومنحنا تأشيرة للشتات (لدي قبضة من الرماد / ... رماد اشباح الحصى / ولاحصى) لنكون قبالة تحولات مقلقة (والاشياء التي اصبحت / بلمحة الى لا.....) .زد على ذلك ان تكرار (لدي ) تسع مرات قد عكس بدقة تفاصيل ثقافة المنفى التي لن تمنح الذات الواقعة تحت سلطتها الا حرمانا ووجعا لذلك يبدأ المتن استهلالته (ايتها النفس المتوثبة / ارجعي الى الفك راكضة )ليكون المنفى قرين الجحيم . وقد يصوغ المتخيل الشعري صورة سوريالية تضيء الواقع الثقافي المأزوم ومناخاته الملبدة بالوأد الفكري ، تأمل مثلا الشذرة الثانية من قصيدة (ومضتان ) والتي جاءت تحت مسمى (منحنيات ... ص 73) : في المنحنيات الشرقية الضيقة رايت قطعة ليل مبتورة الاصابع ملقاة على رصيف مفخخ ولافتة تقول : ابتعد عن رأسك بمسافة 100 تجربة مرة يشيد عبدالرزاق م
اسم المؤلف / عبد الرزاق الربيعي
منشورات بابل / ( بابل , بغداد , زيورخ ) 2006 م
عدد الصفحات / 104 صفحة