اسم الكتاب / للوقت نص يحميه جريدة البيان ، 13/9/2009 جدل الأضداد في مجموعة الشاعر صادق الطريحي (للوقت نص يحميه)* د. عيسى سلمان درويش لقد وهبه الكلام صمتا، فوهب النص وقتا، وكمن يبحث بين رماد اندثاره عن جذوة احتراق، وبين أوجار ذاكرته وأوجاعها المترفة بالهواجس والأخيلة والتصورات والأحلام في عالم متغير وقامع، أوجر الطريحي وليمة منظوره الإبداعي في قصائد نازفة، أزاحت النقاب عن الوجل الذي أوجع قلبه، وهو لم يزل في هاجسه الطفولي، يسكن خيمته بعيدا عن الخواء والمجالدة الصعبة، وفي طقس من العتمة الصارخة وبدم لم يزل يدفع خطا الوجدان إلى تعميق المشهدية الإبداعية، وفي دواخل تلك الذات التي تصدت بروحها الوثابة الهادئة المتسامية أقبل الطريحي بنبل الشاعر يلامس بعواطفه الحارة النبيلة هواجس النفس وهي مهددة في كينونتها وبقبح تشوهاتها الممتدة منذ الصرخة الأولى؛ ليعطي جاهزيته تواصلا اسطوريا تراثيا. لقد حاوره صمته، فامتد صوته في أعماق التأريخ حاملا سلة من ثمار الكلام لآلهة الشعر؛ فوهبته فيضا من نور القداسة وسحر الحرف، وبأداء اسطوري ربط الحاضر بالماضي راح الطريحي يحفز فطرة الانسان ليقدم قربانه الأزلي كنهر دم لا يجف /حتى يتوضأ كل الشهداء/ ص 6وحاول أن يتحرر من موته حينما خلق أسباب بعثه، وكتب على شاهدة قبره: / هذا الذي منح الطبيعة نقشه/ نور من النخل المعمد بالدماء/ خنقته حشرجة القطارات الحضارية/ فمضى يدون نقشه/.ص 25 ولد الشاعر من جديد بعد أن سقط /مضرجا بدم تفجر بالصراخ/ص 12 وشعر بالموت لكنه لم يمت، فقد وجد بالحلة فسحة للناجين من / الأعراب / والخردل/ والمقابر/ فكانت الحلة في تصوراته هي البدء، وظل الله على الأرض، وهي الأم والمئذنة والنهر... لقد كانت الحلة مختلطة بوعي الشاعر وذائقته الجمالية، فوهبها من الشعر ما اكتمل معه الملمح الجمالي لتلك المدينة وهي تنام مطمئنة، لتستيقظ مذعورة على أصوات الإنفجارات: / كانت الحلة بدءا / كانت مئذنة / تتشكل من أزهار البرتقال ومن خبز الأيتام/ وما نثرته القنابل من ملح الزهراء/ ص 7. الحلة عند الشاعر مدينة الحلم الكبير، والطهارة الممتدة منذ الأزل، وهي عنده كما هي (جيكور) عند السياب، فالحلم بالانعتاق من ربقة الردى ومن استباحة المشاعر النبيلة، وحد بين رؤيتي الشاعرين. وكما تلاقحت رؤيته مرة بالسياب نراه في قصيدة (سيدة المشية) يتنفس بنفس محمود درويش ـ دون أن يقلده ـ فيسمي الخبز بلادا. ويعدّ أولاده في (نص الأب) ويحذو حذوه في النظر إلى القضية التي يتبناها. في هذه المجموعة تصوير للواقع المرير، وللتجربة التي تحفز المبدع على استشراف حدود إبداعه، وفيها كذلك، التوق إلى الغياب في مجهل ينأى عن العنف، ونبرة تختلط فيها مدركات الحواس وتتلاشى الأزمنة؛ لتعود عشتار بعد كل موت محملة بالخبز ، كإيقاع أخضر لتغسل جسد تموز المطعون عند مياه الجنوب... (قصيدة عصب ملتو). وحد الطريحي في هذه المجموعة بين أساطير العالم وأديانه وثقافاته، ووحد بين العراقيين ومذاهبهم، وحاول أن يخلق إنسانا تتمثل فيه كل قيم الخير، وأن ينشىء عالما جديدا وأن يفضح ما يقف عائقا أمام القيم النبيلة، وهو ما ينطبق عليه قول بودلير وهو يخاطب المدينة (( لقد أعطيتني وحلك، وأنا صنعت منه ذهبا)) لذلك وجد بين الثنايا الملتوية لكل عيوب الواقع صورة مشرقة تنسرب بخفاء من اجل أن تتكسر أجنحة الظلام. وبفيض من التناصات كان الماضي والحاضر فيها نقطة للبدء والانتهاء / لا تسقني ماء السواد فإنني / وهنا قد استنشقت أبخرة الرصاص/ ص 68. أو /مازال ابن الخطاب يقول/ أقضانا ابن أبي طالب/ص 6. وعلى وفق مجموعة من المقاربات الإبداعية، تتفتق الرؤيا عن ملامح فياضة لتنقلنا في تخوم مجموعته الشعرية ونحن محملون برؤى متعددة النوازع ، فثمة وجه تفرد بالخشوع، ومليكة تمشي الهوينا، فإذا كشفت عن ساقيها غنى الشاعر (النبي) بعشقها (قصيدة الخضراء والغريق). وتسكن الأنثى إيقاع الرؤية المضببة جسدا ممتدا عبر نصوص المجموعة خارج حدود الجسد الجنسي. والشاعر مبحر في طوفانه الذي يولد من الموت تارة، ويموت أخرى من أجل الولادة، فإذا هي الحلة وسيدة المشيئة، وآسيا، وعشتار، ومريم، والأم التي وزعت أبناءها في الجهات الأربع وباتت تنتظر قدومهم، وهي المليكة التي أسرجت لها قوافي الأناشيد الحبيسة: / لمليكة تمشي الهوينا فوق أمواه الزمان/ تتألق الأنغام في خطواتها/ تتلون الأرض الندية لونها تنفس الأزهار عطر بهائها/ أسرجت قافية الأناشيد الحبيسة/.ص 37. وختاما فإنني أرى في هذه المجموعة تجربة متعددة الرؤى، تتقاذفها معطيات الواقع الذي صنع ملامحها، فمع اليأس أمل ومع الحزن فرح، ومع الموت حياة. وهي تجربة وقفت بوجه ما يطيح بالانسان، وتبنت رؤية الجميع فقدر لها أن تكون خاصة عامة، تجربة لكل الكادحين الذين بذرهم آباؤهم في خضم هذا الوجود الفظ، وحاولوا أن يخلقوا عالما قائما على الحب والبذل. إنها ليست تجربة شاعر حاول الواقع أن يقهره فقهر الواقع على صعيدي العمل والفكر؛ إنها تجربة حياة، وضع فيها الشاعر لمساته الخاصة. ـــــــــــــــــــــ * صادق الطريحي: للوقت نص يحميه، المركز الثقافي العربي السويسري، بغداد ـ زيورخ ، 2009. النزعة الإنسانية في نصوص صادق الطريحيّ عبد الكاظم جبر كلية التربية / جامعة القادسية لعل الشاعر العربي قديماً كان قد اكتفى في التعبير عن أحاسيسه باللمحة العابرة ؛لأن طبيعته جوّابة متنقلة ، إذ كان يؤثر النقلة والرحلة على البقاء في مكان واحد ، فهو - كما القبيلة التي تكتنفه - جوّاب في الأرجاء ،وعدم الاستقرار - هذا- والتنقل المتكرر المستمر جعل لخواطره صفة التنقل كما يشير بعض المهتمين ،ومن ثم كانت أحاسيسه كلُّها مبعثرة مجزّأة ، وكانت خطراته الإنسانية متفرقة، فهي تأتي في القصيدة كلها مثل ومضات البرق هنا وهناك، ولاشك في أن بناء القصيدة على (وحدة البيت)المستقل لا وحدة الموضوع في المنظومة كلها ؛قد جعل معالجات شعرائنا للنواحي الإنسانية مبعثرة في البيت الواحد لا متكاملة أو قصيدة تامة. نؤكد هذا ونتشبث به على الرغم من قول القائل: إن النزعة الإنسانية هي مذهب فلسفي أدبي مادي وضعي براغماتي ، نشأ مذهباً في عصر النهضة الأوربية ، وكان الشعار:((أن الإنسان مقياس الأشياء جميعها))،فقد ذكر(أركون)في كتابه (النزعة الإنسانية والإسلام - معارك فكرية ومقترحات) أن النزعة الإنسانية كانت موجودة في الحضارة الإسلامية ،قبل أن توجد في (أوربا) على عكس ما يتوهم معظم المستشرقين ، تلك النزعة التي تحترم الإنسان وتثق به وبملكاته وإمكانياته على الإبداع والسعادة على هذه الأرض ،ويضيف (أركون) أن هذا الموقف العقلاني ذا النزعة الإنسانية يتجلّى لدى المعتزلة على المستوى الديني ، ولدى الفلاسفة على المستوى النظري ،و أردف أن فيلسوفاً إيطالياً كان يقول:((قرأتُ في كتب العرب بأننا لا يمكن أن نجد على سطح الأرض كائناً أنبل وأكثر روعة من الإنسان)). وبعدُ فإنّه لا يغيب عن أذهاننا أن أبا العلاء المعريّ - مثلاً- حاول أن يسمو بالمجتمع العربي عن طريق انتقاده لمساوئ عصره ، وإن تنديد أبي العلاء بالحكام الظالمين هو من النزوع إلى الحرية التي يفتقدها الناس في عصور الاستبداد أو القهر، وما تحريمه لذبح الحيوان وأكل لحمه ، واجتناء عسل النحل الذي صنعه لنفسه لا لغيره إلّا نوع من الرقة والتعاطف والجنوح الإنساني المتعالي. وإذا كانت النزعة موضع جدلٍ وجوداً وحضوراً أخذاً وردّاً في النص التراثي ،فهي حاضرة واضحة في النص العربي الحديث والمعاصر ، وإذا كان الشاعر متمسكاً بوحدة البيت أكثر من تمسكه بوحدة الموضوع فإنَّ صاحب النص الحديث والمعاصر أكثر انفلاتاً ممّا مُني به النص القديم سواء أكان شعراً عموديا أو حراً أو نثراً تتوافر فيه الكثير من سمات (الشعرية) . ونصوص الطريحي الإبداعية تتجاوز لحظة السعادة إلى وجود حضاري تصونه مرجعية مثالية ذات نزعة إنسانية محضة، نصوص تنزع إلى الحضور الانطلوجي في مستوى من الجمال والروعة الأخاذة ، وتشي بأن الطريحي ّ يتقن اللعبة اللغوية ويشتغل على القاموس الانزياحي المتوهج . ثمة مهيمنات موضوعية وأخرى فنية تطالعك وأنت تقرأ نصوص الطريحي دفعةً واحدةً في مجموعتيه :(للوقت نصٌّ يحميه) و(مياه النص الأول) لتترقب النزعة الإنسانية التي تتمطى فيهما وتأخذ بالحضور ،إلى حدٍّ يجعلك تقول إن هذه النصوص ما هي إلّا أربعة نصوص أو خمسة ،ولعل ذلك متأتٍ من أمرين ،أولهما: موضوعي متأتٍ من كون ولادة جميع النصوص - أو أغلبها- متقاربة ، وهو ما جعله أسير الموقف الإنساني والوطني الذي يعيشه ، إذ يقوم النص - عادة- بتصوير موقف صاحبه من قضايا أمته ووطنه بوصفه ضميراً حياً فيها ، ولساناً ناطقاً يعبر عن أحلامها وآمالها، ويتغنى بأمجادها ، ويأخذ النصّ الذي من هذا النوع قيمته وقيمه ، من علاقة صاحبه بكل ما يجري حوله حتى أنها تبدو في كثيرٍ من الأحيان كأنها ضرورة اللحظة الراهنة التي تجعل منه صوتاً مشيراً إلى التاريخ دون أن يؤرخ بمعنى أنه يؤرخ الحدث بما لا يعدّ من التاريخ ، لأن وظيفة النص الإبداعي في الأحداث هي أن يستفز ويستنفر من أجل اللحظة القادمة لا من أجل لحظة الحدث وحدها. والآخر: فني يتعلق بكون أغلب نصوصه جاءت على سمت واحد ،منسابة موضوعياً على نسق واحد مفترشة ذلك اللون من التعبير عن حالات وجدانية يكونها تكثيف الذات التي تنفجر على شكل نجوى. تتملك الطريحي نزعة إنسانية عارمة ،هذه النزعة تعني إحساسه بالآم الإنسانية في كل مكان وتنبهه على هموم الجنس البشري ، ولما يشغله من مشكلات تسيء إلى إنسانيته أو تبعده عنها، فالإنسانية في الأدب عموماً لا تعني الشفقة أو الحنان أو العطف أو إغاثة الملهوف فحسب ، بل تعني أيضاً موقف المبدع من الهم الإنساني الذي قد يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان ،غير أنه يظل في حقيقته وجوهره واحداً ،فالإبداع الإنساني محاولة جادة تجعل المبدع يجود بقلمه وروحه من أجل تخفيف معاناة الإنسان من خلال الدعوة إلى نصرة الإنسان لأخيه الإنسان وتقوية نوازع المحبة والخير والرحمة فيه ،وإضعاف نوازع الكراهية ، وهو - كما هو الهاجس الديني - يبحث عن (الفضيلة) المطلقة ،أي عن حياة آمنة لا تدنسها الأحقاد والحروب ولا تعصف بها الرياح الجور والاستبداد . شواهد كثيرة فيما كتب الطريحي تؤشر ذلك المنحى وتؤكده ،منها ما في نصه الذي هو بعنوان (الربيع الدامي): أشهد أنني قد رأيتُ : آلاف النخل ، وآلاف الأمهات تركض صوب الحلة كان الصبحُ... صوبَ ارتطام الجسد الغض بشيء ما والشطّ ينابيع فاكهة ٍ حلوةٍ قالت الأُم: يا أيُّها الطفلُ أركض تكاد النار تمسُّكَ قال -بلا رأس- كيف أركض يا أمّي والحوائط ترجعني والسموات تفتح أبوابها [للوقت نص يحميه:41] وهذا النص يعززه نص آخر ويتواتر معه (في البدء كانت الحلة): كانت الحلة بدءاً كانت أماً تجمع لحم أبنائها المذبوحين في أربيل وبغداد والبصرة كانت تعرف، ... أنها سوف تنجب أطفالاً آخرين سيأتون مع الفجر أصابعهم تعرفُ القاتلَ والقاتلُ أعمى لا يعرفُ أنه يقتل عشباً يمتدُّ إلى أقصى اللون الأخضر[للوقت نصّ يحميه:7،6] هذان النصان يؤكدان ما صدرناه - على الرغم من الألم الثقيل- ويسجلان حبه للحياة وحبه لحياة الآخرين، ويتشبث الطريحي بالأمل الذي ينتصر على الخراب والدمار والظلم فهو مشغول بطرد القلق والحزن عن إنسانه الواقعي ليحوله إلى إنسان مثالي ،وهو يبحث ويعاود البحث عن إنسان مثالي في داخله. وهو من جهة أخرى مسكون بهاجس الجديد يريد إنساناً متفوقاً على إنسانه ،أخلاقه من طرازٍ عالٍ، وهو يتطلع إليه بكل قلبه وحواسه ،وهو في الوقت نفسه يشير إلى الاغتراب الذي يعيشه في نصه الذي وسمه بعنوان: (عمود الشعر العربي): ربّما ثلمته التقنية ربما تصدّع ... بفعل الهتافات المعادية للاستعمار ربما خدشته بعض القذائف ربما صار عنواناً في نص محذوف لكنّه،... يسمح لكم بكتابة النص الحديث [مياه النص الأول:53] وهذا أيضاً ما نتلمسه في نصه الذي بعنوان (نص الذاكرة) : أيّتُها الروح التي تبعث الشعر والنثر أيّتُها المباركة بين النصوص امنحيني الخلاص الخلاص من سيطرة الوضوح الخلاص من سطوة التناص ودعيني أعرض ذاكرتي للبيع [مياه النص الأول:57] وتشعر أن (الوقت) في نصه بحر عميق واسع ،ومشهد تقف الأجيال على شاطئه تتأمل وتصغي ، وتروح وتجيء ونشيدها ذكر هذا البحر والتحدث عن أمواجه التي تتبعها الأمواج تلو الأمواج ،ولا يشغلُها عن هذا التكرار شاغل حتى يجيء موج آخر جديد، وهذا ما يشهد له قوله : (أبيات أبي نواس(195هـ) ) أبيات منقوشة على صفحة دجلة يقرأها العربي ،والبدوي، والعجمي، والحضري كان أبو نواس قد نسيها على قارعة الطريق أو هذا ما تظاهر به على الأقل فجئت أنا .. وكتبتُها مرة أخرى كتبتها ،أو نسيتها ؟ (مياه النص الأول :57-58) وكذلك في قوله : في وقت قادم ربما ذات صباح مدرسي ستتغير مواقع كلّ الأشياء لذلك ، سوف نترك أمكنتنا الحميمة جداً لأصدقاء جدد (مياه النص الأول:61) وهو ما يعزز قوله في مجموعته السابقة : مرة كنتُ طفلاً أرقب الساعة تمضي بخشوع لحظةً ... لحظة كانت الساعة قُبلة تدفع الصحراء إلى الظل ... كانت الساعة ُ إرثي [للوقت نص يحميه:21] هذا هو إنسان الطريحي الذي اعتراه القلق والحيرة من الضياع والنكوص ،القلق والحيرة اللذان يذكيان فيه التساؤل والتطلع فيرسمان مثلاً أعلى لإنسان مثالي ...لعل هذا المقال يؤشر جانباً منه ويفصح عن هواجسه وآلامه ، ويكشف عن جمال ملائكي ،ذلك الجمال الذي يحدوه إنسان جاد يتابعه إلى تخوم بعيدة. مجلة تضامن ،تصدر عن المجلس العراقي للسلم والتضامن، بغداد، العدد 13 ، سنة 2012 جريدة الناس قراءة انطباعيّة في (للوقت نصّ يحميه) عدنان عباس سلطان تاريخ النشر 01/11/2011 عن منشورات بابل وضمن السلسلة الشعرية صدر للشاعر صادق الطريحي مجموعته المميزة بعنوان للوقت نص يحميه توزعته 19 قصيدة حولت صفحاته الـ 77 إلى 19عالما من الأفلاك الإبداعية والبناءات الفنية وهوامش لطرح الأسئلة والتأويلات المنوعة للصور والأفكار والرؤى والى 19 مسرحا تدور فيه الرموز الأسطورية والتراثية والإسلامية والإنسانية وبهذا فقد أصاب تعليق الدكتور علي الشلاه في الوجه الثاني من الكتاب حقيقة نوعية العمل الشعري ومحاولات الشاعر في التميز عن مجايليه في استخدام تلك الرموز أو في الطريقة الأسلوبية التي تميز بها على الأقل في هذا الإصدار. ولعل الشلاه كان قد قرأ أعمال الشاعر السابقة لهذا المطبوع ولذا فان درايته تكون هي المرجحة إذ يؤكد بان الشاعر ألطريحي وبسبب اجتهاده وافتتانه بالاختلاف عن الآخرين هو ما يمنح نصه آفاقا أخرى من المغامرة والتجريب الجاد . في شعر الطريحي نقرأ إشارات شفافة ومن خلال تلك الشفافية ندرك بان ما نقرأه إنما هو تاريخ وحادثة نكاد أن نؤشر عنوانها في أذهاننا وتتم هذه المعرفة من خلال المكان والرمز الملقى في ثنيات النصوص وهذا ما نلتقطه رغم إن هناك حشدا من أمكنة وإشارات ورموز لها صلات هامشية أو رئيسة أو جانبية إلا إن الخاصية في شعره انك تلتقط ما تريد وما يتبادر في ذهنك المشبع بثقافة محددة تلتقط الذي تراه في شعره موازيا لما يتشكل لديك من انطباعات وذلك لان شعر الطريحي متسع ثقافي شامل للبيئة الأكبر والتلونات المجتمعية التي تمتلئ بها خارطة الوطن ومنها ماله إفاضة نوعية إلى العالم الفسيح .وإذن فهو إذ يقدم قصيدة إنما يقدم عالما قابلا للاتساع والتمدد يشبه إلى حد ما مرونة الرحم بالنسبة للوليد القصيدة وتأويلاتها في أي اتجاه أرادت. إضافة إلى إنها منبر لحشد من الأسئلة. لعل الميزة في الكتابة الشعرية وسواها تكمن في مدى قدرتها على إثارة الأسئلة فالأسئلة تعني التفاعل والشك والبحث المهموم بالحقيقة. وفي هذا الإصدار قد خلق بيئة شعرية لإثارة تلك الأسئلة التي لاجواب لها من خلال ترميزاته ولغته وإيماءاته البارعة للواقع المأساوي الذي عشناه ونعيشه في الراهن من الزمن. ويمكننا الآن أن نبدي شذرات من شعر صادق الطريحي من مجموعته الشعرية للوقت نص يحميه . بينما ..يظهر الموت.. غيابنا المحتوم..حيود حواسنا البشرية متيبسين حفاة .فوق امواه الفرات المقدس .. قرب مصاطب الآلهة حيث تتبدد الشمس..آخر امل لنا بالنجاة .. في عربة نقل الموتى . العربة جاثمة فوق صدري / لها لون ابيض/ رقدنا معا .. في التابوت المبرد.. فرحين.. *** ربما لن تكوني في جنازتي..فسوف تحملها فتية المدينة .. وسيبكي الشيوخ حتما.. ليست جنازتي بشيء ذي بال..انهم يضعون الآس فوق التابوت جنازة بسيطة .. لربع قرن من الطفولة فقط.. *** بعد ان تنسانا الحرب .. وانقشي فوق قبري .. فوق رخامته الكربلائية الحزينة : (هذا الذي منح الطبيعة نقشه نور من النخل المعمد بالدماء .. خنقته حشرجة القطارات الحضارية .. فمضى يدون نقشه ). *** اشهد اني رايت .. الاف النخل والاف الامهات .. تركض صوب الحلة .. كان الصبح .. صوت ارتطام الجسد الغض بشيء ما .. والشط ينابيع فواكه حلوة .. قالت الام: ايها الطفل .. اركض تكاد النار تمسك .. قال:بلا راس .. كيف اركض يا امي.. والحوائط ترجعني..والسماوات تفتح ابوابها .. اشهد اني رايت .. سدرة المنتهى تومئ لي تعال .. تعال.. *** وفي كوز الشيخ جعفر يقول الشاعر: يا ايها الكوز الموشى بالغمام.. بلل شفاهي بالغمام.. جفت من الارق الممل قصائدي .. والنبع غطاه الغبار يا ايها الكوز القديم . اولادي الجوعى عراة نائمين .. والطفلة العرجاء تنتظر السماء .. وتضج بالمطر الحزين ..بلل شفاهي .قطرة او قطرتين من المطر . سرق اللصوص ثمار بستاني الصغير .. وانا احاول ان اسير ..فلا ارى غير الضباب.. لكنني ابصرت باللص الحقير .. يمضي الى الكوز الفراتي الاديم .. فضربته وضربته حتى سقط مضرجا بدم تفجر بالصراخ.. هل يهطل المطر الغزير ..يا ايها الكوز الملطخ بالدماء .. ياطلعة زرقاء من وهج السماء ..يابسمة فوق الحصير .. اني احس رصاصة تقتحم الفراغ .. اني احس بها تحطم ماتبقى من خراب .. والطفلة العرجاء تركض خلف سراب .. من البط المحمل بالمطر .. هل هطل المطر .. هل هطل المطر .. يا ايها الكوز الفخاري الحزين .؟ وأخيرا فان من يقرأ نصوص الطريحي الشعرية سوف تثار في ذهنه صور من المشاعر والاستذكارات الشخصية والتجارب المريرة وكأن الشعر قد قدح لها لتتوالى على الأذهان على شكل استذكار وأمكنة ووجوه مألوفة وحوادث معاشة وقصص مروية وخرافات واساطير وظنون وانطباعات واستعراضات نادمة أو رضية وأمنيات مستحيلة وأخرى ضائعة وأحزان عبرت مراحل الدمع وتحولت إلى أشياء مؤلمة تعيش هناك في أعماق النفس المعذبة أو كأنها ندب تتراص على الفؤاد . هكذا يمنحك سياحة في مخلفات الماضي ويمر بك على خراب الحاضر أيضا لكنه بمقابل كل هذا يأتيك باللمسة الحنون والعزاء الرحيم ويجعلك تلامس مخمل الامل وذلك لان الأمل دائما ما يؤطر شعر الطريحي وان المستقبل دال على ذلك المشعل المتوهج في آخر الافق وان بدى بصورة بعيدة لكنه يقع دائما في إطار الافق كما لو انك تشاهد بساتين بعيدة وتتخيل إطارها الاخضر المتمايل بهدوء وهو بذلك شاعر أصيل ينطق بما تنطق به البيئة الاجتماعية وهي التي تعيش ثقافيا على أمل المستقبل بحيث يكون الانتظار واحدا من الرؤى الدينية ويعد نوعا من انواع العبادة . للوقت نص يحميه كتاب شعري يضاف إلى المشهد الشعري العراقي باقتدار يستحق أن ينال مكانته عن جدارة في الإبداع الفني الرفيع.
اسم المؤلف / صادق الطريحي
منشورات بابل / ( بابل , بغداد , زيورخ ) 2009 م
عدد الصفحات / 77 صفحة